القاهرة فيها سم قاتل
في مثل هذه الأيام من العام الماضي أصبح لي سكن ثابت في القاهرة، صحيح أنني علي مدار السنوات العشر الماضية لم أكن أنقطع عن زيارتها، ولكني كنت أُعد ضيفاً، أُقيم في في فندق أو لدى صديق، ذلك جعل إقامتي مهما طالت لا تزيد عن اسبوعين.
خلال العام الماضي رأت عين الساكن في المدينة الملعونة خلال عام ما لم تره عين الضيف خلال عشرة أعوام.
أفتح عيني يومياً على قسوة.. قدر غير محدود من القسوة يكسو وجوه البشر وتصرفاتهم، في البداية كنت أفزع لرؤية رجل ضخم الجثة يصارع سيدة مسكينة أو عجوز للظفر بمقعد في الميكروباص الوحيد المتاح، وأقول في نفسي ما لهذا المجنون عديم الرحمة، ولكن وجدت ذات السيدة تدفعني للخلف لتفوز هي بالمقعد التالي.. لا تعني بفرق القوة بيننا، وتجاهد كي تدفعني، فاتنحى لها مندهشاً.
مع الوقت فهمت.. ذلك الرجل هائل الحجم لديه أطفال صغار لو تأخر عن عمله فيعني ذلك ببعض العمليات الحسابية المعقدة نقص في عدد الأرغفة المتاحة لصغاره؛ هو يدافع عن بقاءه وبقاء نسله لا أكثر، لقد نزعت عنه أسمال التحضر فصار من الضواري يخوض يومياً حرب بقاء، وكذلك هي السيدة التي دفعتني.. جزء ضعيف من حلبة صراع الجبابرة الكبرى المقامة بحجم القاهرة.
هذا هو اللفظ الصحيح إذاً: حرب بقاء.. هناك بضع ملايين من البشر يعيشون معاً في تلك البقعة البائسة ويتصارعون علي مواردها المحدودة المتمثلة في رغيف خبر وكوب ماء ووسيلة انتقال.
لم أخرج سلمياً من حرب البقاء وتعلمت بدوري أن أتجاهل الأيدي الممدوة لي، فإن أعطيت كل يد وإن عطفت علي كل حالة إنسانية أٌقابلها لما كفاهم ولا كفاني ما أملك. علي مدار عام تعلمت أن أصير "مثلهم" ودربت نفسي علي تجاهل كل المشاهد المؤذية التى أمر بها في طريقي إلى العمل وأُكمل يومي بشكل طبيعي.
وماذا عن الأذى؟ سلوك إنساني آخر يفرض نفسه في القاهرة، أنت تمارس الأذى فقط لأنك تستطيع ذلك، دون مبرر دون منطق، شر خام يخرج من شوارع تلك المدينة وغالباً ما يوجه ضد الفئات الأضعف وتحديداً النساء؛ حوادث التحرش التي أراها يومياً في القاهرة لا يمكن فهمها إلا في اطار الأذى المجرد، لا شبهة أفعال جنسية ها هنا.
وللسيطرة علي ملايين الوحوش التي تعيش معاً في بقعة واحدة تستخدم الدولة نوعين من الضواري: رجال الشرطة والبلطجية والإثنان يعملان معاً في تكامل وتناغم تام، فتجد نفسك أنت المواطن مسؤول عن حماية نفسك من الصراع في حرب البقاء ومسؤول أيضاً عن حماية نفسهم من النوعين سابقي الذكر من الضواري.
الحقد على كل ما هو جميل وإنساني صفة أساسية لتلك المدينة القاتلة.. هل رأيت ذلك الفديو الذي يصور شاب وفتاة يظهر عليهما أنهما غائبين في نظرة حب طويلة علي أعتاب أحد عربات المترو؟ حسناً، لقد قام مجموعة شباب بصفع هذا الشاب بقسوة ولاذوا بالفرار قبل أن يغلق المترو أبوابه!!
في أحد ليالي الصيف سمعت ضجيجاً عالياً لتصفيق وصفير، فنظرت من النافذة لأجد مجموعة من حوالي 11 شاب تحيط بشاب وفتاة يعبران الطريق.. كان يمسك بيدها في خوف وقهر وقد آثر الصمت وأدرك أن خروجها وخروجه سالمين يقتضي بألا يلتفت لهم حفاظاً علي سلامة جسدها وجسده، ولكني أدركت أن كرامته لن تخرج سليمة من تلك الواقعة. تذكرت ما قاله أمل دنقل يوماً: كيف تنظر في عيني امرأة.. أنت تعرف أنك لا تستطيع حمايتها؟.
في حرب البقاء هناك الكثير من النصابين؛ حتى أنك تجد صعوبة في تصديق الحكايات المسأوية التي يرويها لك المتسول وسائق التاكسي وعامل المقهي.. هل فعلاً تصدقهم وتقرر مشاركتهم بما تملك من مال أما أنك صرت منيعاً من التأثر بفضل ما وقعت ضحيته من عمليات نصب سابقة ؟
تشبه القاهرة الآن "مدن ما قبل المحرقة".. إنها المدينة التي ستستيقظ غداً علي الإنفجار العظيم أو انتشار الوباء المُهلك أو تحول ساكنيها إلى زومبي. إننا الآن بالضبط في الليلة التي تسبق العاصفة المرعبة. لابد لكل هذا الشر من نهاية تليق به.
الشر يقيم في هذه المدينة بين أهلها كأنه واحد منهم، وأنا الذي وُلدت وعشت في بيئة قاسية تقدس العنف والدماء أجد نفسي أتضائل أمام قسوة هذه المدينة.. لدينا شر وعنف ولكنهما مبررين، أما هذا الشر المطلق فجديد عليّ تماماً. للشيطان مدن كثيرة أنا الآن أعرف واحدة منها.
تأكل القاهرة أرواحنا، وشئنا أم أبينا سُنصبح جزء من حروب البقاء وسننازع علي المقعد الخالي في الحافلة والرغيف الأخير وكوب الماء المتبقي.
اهربوا بإنسانيتكم خارج هذه المدينة فهي تقتلها في بطء.