مذكرات معتقل سياسي. (2)
مشيت العربية شوية ودخلت طريق صحراوي، العربيات فيه قليلة. بعد أكثر من نص ساعة، وصلت لمكان ما ودخلت من بوابة، نزلوني منها شمال ويمين وخطوة فوق وخطوتين تحت، ولقيت نفسي قدام مكتب بيستلموني، ويفتشني، وياخد الحزام والسجاير والولاعة.
دخلوني حجرة وقعدت على "البرش" يعني فرشة على الأرض، وأنا مازلت مكبل بالحديد وعينيّا مغمّاة. قبل ما يخرج السجّان قال لي بلهجة آمرة: "إنت تنسى اسمك خالص من دلوقتي. إنت بقى اسمك 87، يعني لما حد ينادي يا 87 تقول له أفندم. فاهم؟".
- فهمت.
خرج السجان ورفعت الغمامة شوية، وبصيت حواليا لقيتني في غرفة كبيرة، وفيها حوالي عشر شباب ملتحين بس في أماكن متفرقة وساكتين تمامًا. ملتحين؟ ومعايا أنا؟ نزلت الغمامة تاني وأنا في حالة ذهول؛ واضح إن فيه حاجة غلط بتحصل، واللي هاستنجد بيهم هما اللي باعوني على ما يبدو.
ناديت للسجان عايز مسكن من شنطة الدوا اللي معاك، راح جاب لي الشنطة ومن غير ما يرفع الغمامة إداني المسكن وكباية مية.. خرج شوية، وناديت عليه عايز الحمام، سحبني من إيدي، وأنا ببص من تحت الغمامة، وشايف بشر بلا حصر متكلبشين وراقدين على الأرض. وصلنا الحمام، ورفض يفك الكلبش، ورفضت أعمل حمام ورجعت. عدينا على مكتب الأمن، واحد بيقول لي بلهجة تحذيرية: "إحنا بنعاملك كويس عشان شكلك راجل محترم، بس اوعى لما تطلع تقول كدا ما تفضحناش وتبوّظ سمعتنا".
رجعت تاني على البرش بتاعي، ودرجة الحرارة تقريبًا من جهنم مباشرة، وعمّال أعرق. جالي تاني السجان ومعاه طبق فول كبير وعيش، ومين يقدر ياكل في الجو ده؟ قعدت أحاول أرتب أفكاري وأفهم اللي بيحصل، بس برضه مش فاهم، وفي حالة ذهول تام لحد الساعة عشرة الصبح تقريبًا.
نادي السجان: "يا 87!" قلت: "أفندم." جالي، سحبني من إيدي، وطلع بيا سلم كام درجة، وابتديت أنهج. أنا وزني زايد جدًا وعدّيت الـ117 كيلو، وما بتحركش تقريبًا من البيت. تاني دور، حسيت إن قلبي هاينط من كتر الدق، وتالت دور قعدت أستريح على السلم، وهكذا لما وصلنا للدور السادس، وفتح لي باب ودخلني مكتب مكيّف.
دخلت تقريبًا وأنا بموت، والعرق زي جردل مية فوق راسي. الظابط، الحقيقة، كان مهذب وقال للعسكري يقعدني، وقعدت على كرسي جلد يغريك بالنوم، وطلب لي إزازة مية معدنية جت مثلجة شربتها مرة واحدة، وطلب لي واحدة تانية.
بدأ الاستجواب: "خلي بالك، الجلسة دي هاتحدد مصيرك ومستقبلك كله؛ يا تخرج على القبر أو تختفي للأبد جوة المعتقل، أو تروح بيتك!".
- "والله يا أفندم أنا ماعنديش سر ولا حاجة أخبيها، وعمرى ما كذبت، صدقني..".
- "طب إنت كنت معتصم في رابعة ليه؟".
- "أنا؟ إطلاقًا، ده أنا أكبر عدو للإخوان والسلفيين".
- "آه، يبقى إنت ملحد بقى؟".
- "ده إذا كنت بكره الإخوان والسلفيين، بس بحتقر الملحدين جميعًا، وعمرى ما الحدت".
بيكلمني وتقريبًا قدامه صفحتي على الفيس، وبيقول لي:
- "قدامي صورة بتبوس فيها إيد راهبة مسيحية. هو انت اتنصرت؟".
- "لا يا أفندم، دي راهبة يونانية كاثوليكية عمرها 100 سنة، وعندنا بوس إيد الهائم أو ست كبيرة بيعبر عن الاحترام مش الولاء، وبعدين أنا بحب المسيحيين".
- "أديك بتقول بتحب المسيحية أهه، اتنصرت إمتى؟".
- "بقول أنا بحب المسيحيين، والمصريين منهم على وجه التحديد، مش الدين المسيحي".
- "خلينا في المهم: إنت ليه واقف ضد البلد؟".
- "ده أنا عاشق لترابها، أنا بس ضد السيسي".
- "ما هو السيسي هو مصر!".
الجملة دي قالها برضه لواحد من كرداسة، رد عليه: "السيسي هو مصر إزاي؟ يعني لو مات السيسي، مصر تموت؟".
رد الظابط بكل ثقة: "آه، لو السيسي مات يبقى مصر ماتت!".
كملت الحوار بصدق: "برضه أنا مش ضده على الإطلاق، لأني ما بفهمش سياسة، أنا ضده في ملفات تيران وصنافير وملف إثيوبيا، ودي مسائل وطنية مش سياسية".
- "طب احكي لي عن نفسك وعن أسرتك، وإياك والكذب، وإلا هاتروح ورا الشمس!".
- "أنا ما عنديش سر أخبيه أصلًا، وبعدين ما عنديش حاجة عملتها تخوفني عشان أخبيها".
- "لأ، إنت لازم تخاف مني".
- رديت بثقة: "أخاف من حضرتك ليه وأنا شخص ملتزم؟".
قال لي بكل جبروت: "لأني أقدر أجيب حريمك هنا وأعمل فيهم اللي عايزه قدامك".
قلت له بغضب: "عيب عليك يا باشا، إحنا فلاحين، والحريم لو دخلت في موضوع ما بتخرجش غير بالدم!".
سكت، ما علّقش.
قلت له عن أسرتي وأهلي المقربين. يبدو إنه ماكنش يعرفني فعلاً، لأنه قال لي: "هاعمل لك كشف عيلة، ولو طلع كلامك كذب هاوديك ورا الشمس". هو معقول حد يكذب في نسبه؟
خرج برة دقايق، وبعت لي كباية شاي وسيجارة، ونزلت على البوكس مرة تانية.
تخيلت إني في طريقي للبيت بعد ما عرفوا أنا مين..