مذكرات معتقل سياسي - الجزء الرابع


مذكرات معتقل سياسي. (4)

وصلنا قسم الهرم حوالي واحدة بعد نص الليل، لكن القسم مافيش فيه حجز للسياسيين، يبقى أدخل مع الجنائيين. فكوا الكلبشات ومشى قدّامي السجّان ووصلني لأفخم حجز عندهم، حجز رقم عشرة الفاخر. عرفت بعد ما بقيت مسجون قديم إن الأقسام فيها حجز مخصوص للـ"بكايِت" أو "البكيتة"، ودي كلمة مشتقة من البوكيت ماني؛ يعني حجز للناس الأغنياء فقط وممنوع دخول الرعاع عليهم، ولو كنت أستاذ في الجامعة. بس الهرم برضه مافيش فيها حجز للبكيتة لأن عدد المساجين رهيب.

فتح السجّان الحجز وهو بيقول بفخر وبصوت عالي: "جبت لكم مدير فندق!" قام واحد نص نايم نص مسطول اسمه بدر عاشور وراح ساحبني من إيدي من غير كلام بعد ما قلعني الجزمة ودخل بيا جوة. عشان تتخيل المنظر، الحجز ده 3 متر في اتنين، وبعدين حرف "إل" وتلاتة متر تانيين في اتنين، وآخرهم حمام بلدي بدون باب، مترين في متر.

أول ما تدخل، على شمالك منطقة بيسموها "المصلب"، ودي مكان مخصوص للأثرياء. فيها اتنين نايمين على عشر بطاطين وفوق منهم ملاية، ونايمين في مساحة واسعة زي السرير، مع إن المساحة القانونية للمسجون شبرين وقبضة! يعني تنام على جنبك بيسموها تنام "مسيف" يعني زي السيف، لا تتحرك ولا تتقلب، لازق في اللي أدامك واللي وراك لازق فيك.

بعد "المصلب" منطقة رمادية، لا هي للأثرياء ولا للرعاع، دي منطقة متوسطي الدخل اللي بيدفعوا تمن النوم بس بمبلغ أقل. بعدها حيطة في الوش اسمها "المراية"، ودي للبلطجي اللي بيحكم الحجز ومعاه عصابته. بيسموه قديم الحجز أو "المسير" أو "النوباتشي". تخش بقى على حرف "إل" اللي بين المراية والحمام، دي منطقة للرعاع اسمها "العزبة" للفقرا اللي مش لاقيين ياكلوا أو يدفعوا للعصابة. الحمام المترين في متر بينام فيه تلاتة؛ اتنين قاعدين على جرادل مقلوبة والتالت نايم.


المكان فيه 65 بني آدم، وما تسألنيش إزاي. هي علبة سردين، تمشي فيها تدوس على بني آدمين في غيبوبة وشبه ميتين. الطبيعي إن الجديد اللي مالوش سوابق بيدخلوه أحقر مكان جنب باب الحمام مباشرة. راح بدر ساحبني ومشيت وراه فوق جثث شبه آدمية وقال لي: "تنام هنا ده مكانك". ببص، لقيت نفسي هنام على باب الحمام فوق جثث برضه. سحبت إيدي بعنف منه ورحت راجع جري: "إنت عبيط؟ أنا أنام هنا؟ إنت مش عارف بتكلم مين؟" ورجعت وقفت على الباب، وببص من خرم الباب.

الحجز مافيش فيه مراية أو طاقة للباب زي السجن. مستني نجدة من السماء. الواد طلع جدع وقال لي: "هاسيبك هنا الليلة وبكرة نتفاهم"، وجاب لي جردل عليه كرتونة وقال لي: "نام عليه". راح حاشر الجردل بين جثث آدمية وسابني ونام. قعدت على الجردل وبدور على مكان لرِجليا، لقيت بالعافية مكان لرجل واحدة. حطيت رجل على رجل، ولما توجعني أنزلها وأرفع التانية. ومافيش معايا لا سجاير ولا فلوس، ولا حتى عندي قدرة على السهر بعد اليومين المرعبين دول.

قعدت وسلّمت أمري لله. شوية ولقيت نفسي بنام وأنا قاعد وهابتدي أميل وأقع على الجثث اللي حواليا. أفوق وأتماسك لحسن أدخل في مشكلة مش مكانها هنا خالص. فضلت على كدة ببص للناس النايمة وبحسد أول اتنين لأنهم نايمين مستريحين. فضلت على كدة لحد حوالي اتنين الضهر لما الناس صحيت.

لقيت أول واحد اللي نايم مرتاح ده بيكلمني: "أنا اسمي أحمد، تاجر عربيات وفاتح في المريوطية. استريحت لك من غير كلام. أنا هاخليك تنام جنبي أنا وصاحبي في النومة الملوكي دي. إيه رأيك؟" قلت له: "يبقى كتر خيرك والله". قال: "طب حول لبنتي بقى ألفين جنيه على فودافون كاش الأول، ده إيجار مكانك في المصلب في الأسبوع، من غير فصال." قلت له: "ماشي، جهز لي المكان بقى عايز أنام". قال لي: "لأ، التحويل يوصل الأول".

مشكلة، أنا ماعرفش ولا حتى رقم تليفوني. وفجأة افتكرت إني حافظ رقم صديقي المستشار فؤاد. فوراً اتصلت بيه: "يا فؤاد، حول لي ألفين جنيه على الرقم ده، وتنزل دلوقتي. معلش مع إن درجة الحرارة ألف، بس أنا تعبان وعايز ألاقي مكان أحط فيه رجلي التانية". وفعلاً نزل الراجل وحول المبلغ، وبدأ أحمد يؤمر بتجهيز الفرشة لي.


أحمد ده هو الآمر في الحجز، مش البلطجي بدر، بس ساعة الجد بدر يشده من قفاه وينام مكانه بكل بساطة، ويفضل أحمد واقف زي الكلب مش قادر ينطق. بعد عشر ساعات بس عرفت منه نظام المكان. إحنا الثلاثة المميزين بفلوسنا بندفع ألفين جنيه في الأسبوع. بعدينا حوالي عشرة من متوسطي الدخل، بيدفعوا 500 جنيه بس نظير إنهم يناموا تحت التكييف والمراوح، بس برضه بيناموا مسيفين، يعني لازقين في بعض وممنوع حد فيهم يتقلب على جنبه وإلا يتعرض للضرب من البلطجي ورجالته. منهم أستاذ في جامعة الزقازيق، واتنين دكاترة، واتنين صيادلة، ومحاسب، وشباب زي الفل.

بعديهم البلطجي وعصابته حوالي 15 فرد، دول بياكلوا ويشربوا على حساب اللي زينا، ويدفعوا 400 جنيه للسجانين في اليوم نظير أعمال غير مشروعة، هانحكيها. كدا حوالي 28 فرد مميزين بشكل ما. جوة بقى في العزبة حوالي أربعين، لا تتخيل إزاي بيناموا ولا بيقعدوا؛ واحد نايم مسيف ورجليه على جسم اللي أدامه، واللي أدامه فارد رجليه في وشه. وريحة العرق لا تطاق. بياكلوا أكل القسم اللي هو عبارة عن عيش وجبنة، إلا لو فاض أكل من الأغنياء ياكلوه هما. والحمام فيه خدمة 24 ساعة نظير أن كل سجين يدفع لهم سيجارتين يومياً. واللي يعترض على أي حاجة أو يحاول يتقلب بس على جنبه التاني يلاقي قلم صاروخ نازل على وشه من البلطجي يخلي كل الحجز يرتعش. يادوب يقول لواحد نام، تلاقي الكل سمع الكلام وارتمى فوراً وسيف ونام.

يعني باختصار، فيلم رعب ماعرفتش حتى أوصفه زي ما شفته مهما قلت. فؤاد بعت الفلوس، والفرشة اتفرشت وعليها ملاية جديدة. وهنام بقى. راح أحمد قال لي: "لسه شوية نثريات كدا. التكييف لسه شاريينه إمبارح ودفعت فيه 7 آلاف جنيه، وانت عليك منهم 500". قلت له: "ماشي يا أحمد". قال: "والمروحة اللي أدامك دي عليك فيها 50". قلت: "ماشي يا بركة". قال: "وكل يوم بقى تدفع عشرين جنيه للبلطجي، وسيجارتين فرط للحمام، والزيارة بتدفع عليها خمسين جنيه بس. اتفقنا؟"

قلت: "خلاص يا عم، اتفقنا وسيبني بقى وحياة النبي عايز ألاقي مكان لرِجلي". صحيح، إحنا زمان في الفلاحين بنقول على العظيم حاطط رجل في الأرض والتانية مش لاقي لها مكان، دلالة على عظمته وجبروته، بس إحنا هنا مش وقت عظمة. إحنا مساجين يا لينا !!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال