مذكرات معتقل سياسي. (13)
"ربك مسجون في الزنزانة اللي جنبك".
- حمزة البسيوني.
معظم المقبوض عليهم دلوقتي معمول لهم قضية اسمها "انضمام"، يعني أعضاء في منظمة إرهابية محظورة بحكم القانون، وهي جماعة الإخوان المنحلة. الإخوان جماعة أسسها حسن البنا سنة 1928 بدعم من السعودية وألمانيا النازية. وكان السبب الرئيسي في قيامها هو إحساس المسلمين بالضياع بعد انهيار الخلافة على يد أتاتورك سنة 1924.
نجح البنا، الشخصية الكاريزمية الجبارة "البكاءة"، في السيطرة على البسطاء في مصر في الثلاثينات، ليصبح الرجل القوي في مصر الأربعينات. واغتر بقوته، فبدأ سلسلة من الاغتيالات على يد الجهاز السري أو الجماعة المسلحة للإخوان بقيادة صالح عشماوي، مما جعل القصر والشعب في مصر يرتجفون من جبروت الإسلام السياسي في عهد ليبرالي منفتح على الآخر.
حدثان عجّلا بنهاية البنا:
الأول: هو اغتيال النقراشي باشا، رئيس وزراء مصر، بعد اغتيال أحمد الخازندار القاضي.
الثاني: اكتشاف الملك لنتيجة حائط مرفوع عنها صورة الملك ومرفوعة بدلاً منها صورة حسن البنا، كإشارة إلى أن البنا هو ملك مصر القادم. وهنا كان اغتيال البنا سنة 1949 على يد البوليس السري بمساعدة من كاتبنا الأشهر يوسف إدريس في بداياته. ومات أشر أهل الأرض بعد أن زرع السم في أحشائنا الطاهرة.
لكن الجماعة لم تمت. سريعاً ما تحالفت مع الضباط الأحرار. وقسم عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة على المصحف والمسدس في الحجرة المظلمة. قامت علاقة وطيدة بين المرشد وجمال. ونجحت الثورة بدعم الإخوان في الوصول إلى الحكم. لكن حدثت الفرقة عند توزيع الغنائم، فالجماعة أرادت وزارة سيادية على الأقل (حربية أو داخلية) مع بعض الوزارات الهامشية، خاصة التعليم.
ناصر اكتفى بوضعهم في مكانهم الدعوي، في وزارة أحمد حسن الباقوري (الأوقاف). فجاء الرد بمحاولة اغتيال عبد الناصر في المنشية سنة 1956، بعد فشل التحالف الثلاثي بين الإخوان والكلب نجيب والسفارات الأجنبية (فرنسية، إنجليزية، وأمريكية). أظن دي معلومات مخفية عن غالبية الشعب. الإخوان "ركبوا" نجيب وطالبوا باحتلال خارجي يحكمون في ظله من خلال الخائن نجيب، نصف المصري.
فتح ناصر النار على الإخوان، ولكن برفق؛ فهو لم ينسَ أنهم رجاله وما زالوا أسياد الشارع المصري. لكنه فتح عليهم أبواب الجحيم بعد اكتشاف خلية سيد قطب التكفيرية سنة 1965. وكانت النار أقوى من خبثهم وتقيتهم، فهربوا إلى الدول العربية وأوروبا، والباقي دخل المعتقلات الناصرية.
أدبيات الإخوان في السجون الناصرية كانت مثل أدبيات اليهود في العهد النازي: كلها تمثيل وادعاءات وحكايات كوميدية تليق بالمعاقين فكرياً (وما أكثرهم من شعبنا المُدجَّن). ظهرت نظريات عن الأسد الذي يلتهم المعتقلين والكلاب البوليسية المدربة على اغتصاب النساء -وهي حقيقة-، ولكن بتيجي عن "الأخوات" وتبقى كلاب مؤمنة! وما إن يفتح الحراس الباب حتى يجدوا الكلب يصلي مع زينب الغزالي الصلاة الإسلامية!! (السيدة زينب الغزالي كانت المعادل الموضوعي للسيدة نوال السعداوي).
وعرفنا حكايات عن صلاح نصر وحمزة البسيوني، أشرس سجاني مصر. يُحكى أن حمزة البسيوني مرة مرّ أمام زنزانة إخواني يقول له: "ربنا ينتقم منك على اللي بتعمله فينا." فرد حمزة ببساطة: "ربك محبوس في الزنزانة اللي جنبك!".
وقصة عبد الناصر، الذي كان يُقال إنه يذهب بنفسه ليشرف على تعذيب الإخوان في السجون، ورغم صحة أنصاف الحكايات دي (زي موضوع الكلاب المدربة على اغتصاب النساء) إلا إن النصف الثاني فيه الكثير من العته الفكري الذي ذكره كشك والشعراوي وزينب الغزالي وباقي المعاقين ذهنياً.
لكن الشيء الوحيد المؤكد أن ناصر كان يقبض على الإخوان فقط، ولم يكن يقبض على الجميع، حتى المتعاطفين معهم.
مات عبد الناصر وتولى السادات، الذي أراد مواجهة المد الناصري. فاستعان بصديقه عثمان أحمد عثمان لإطلاق سراح الإخوان ودعوتهم إلى القصر الجمهوري. أطلق يدهم في الجامعات، التي كانت حتى السبعينات ضمير مصر الشريف والمثقف والمحرك للجماهير.
لمع نجم الطالب عصام العريان في تمثيلية ساداتية، ليصبح رمز العهد الجديد في الجامعة. اعترف عصام في فيديو شهير مؤخراً أن الجامعة كان بها بنتان فقط ترتديان الحجاب. بدأ العريان يدعو إلى الحجاب والحشمة وإبعاد الأولاد عن البنات. وعندما اقتنعت البنات بالحجاب، بحثوا في مصر كلها عن محل واحد يبيع الحجاب، وفشلوا. اضطر عصام لفتح مصنع لتصنيع رداء البدو، لترتديه بنات مصر في ردة حضارية تعبّر عن سيطرة الإخوان على الجامعة والشارع.
النهاية بعد الخراب كانت تطبيقاً لنظرية عبد الله بن سلول: "أجع كلبك يتبعك، وأطعمه يأكلك." فأكل الكلب الإسلامي الرئيس المؤمن في يوم عيده، في دراما مؤلمة تدلنا جميعاً على أخلاقيات الإسلام السياسي.
بموت السادات، وصل مبارك للعرش. لكن السادات ومن قبله ناصر كانا أصحاب رؤية، تختلف أو تتفق معها، لكنها كانت رؤية ذات منظومة فكرية. أما مبارك، فقد كان رجلاً عديم الموهبة والفكر. كان قراره أن تظل الأمور كما هي، علّها تصلح من نفسها ذات يوم. أو كما قيل: كان هناك اتفاق ضمني بين مبارك والإسلام السياسي، مضمونه: "اتركوا لي الحكم، أترك لكم الشارع!".