مذكرات معتقل سياسي - الجزء الخامس



مذكرات معتقل سياسي. (5)

لسه بحاول أنام على البرش لأول مرة بعد يومين من الإرهاق. الباب اتفتح، والسجان بينادي: "محمد شومان، زيارة"..

خرجت ولقيت صديقنا الصحفي ريمون وجيه من جريدة "فيتو"، كان في البلد وأول ما سمع الخبر رجع فوراً، وجايب معاه خطاب توصية من الجريدة للمأمور. وراه صديقنا الصحفي أسامة عيد، ومعاه المحامي بتاعه، وبعد شوية جه صحفي تالت، أخونا سليم صفي الدين، ومعاه محامي. أول ما سليم شافني انهار بالبكاء على منظري، واضح إن شكلي كان صعب جداً. وتكتمل منظومة الصحفيين بالصحفي الرابع محمد رجب.

واقترحوا إننا نمنع النشر عن قضيتي وإلا نكون بنستفز الأمن. ودي أكيد غلطة وهتتصلح خلال ساعات. وافقت على العرض، مش عشان مقتنع، لكن الموقف نفسه مخليني شبه غيبوبة ومش فاهم حاجة، تقريباً عندي ارتجاج في المخ، والمحامين طمأنوني إن ما فيش قضية ولا حاجة، دي مجرد "قرصة ودن" عشان ألم نفسي شوية.. ماشي.

رجعت الزنزانة، ويادوب دخلت والباب اتفتح. "محمد شومان، العيال برة"، و"العيال" تعبير مهذب عن الأسرة. الجنائيين بيسموا الأم "العجوزة" والزوجة "المزة". وأنا خارج، أحمد ناداني: "خليهم يحولوا لبنتي 5 آلاف جنيه وأنا هاديهالك هنا 6 آلاف. ده النظام هنا، الألف يبقى 1200". قلت له "هاخليهم يحولوا خمسة وآخدهم خمسة برضه". خرجت ولقيت أختي والبنات وأمهم رجعوا من البلد الفجر وبيدوروا عليّ من ساعتها بعد ما الجيران بلغوهم بالمصيبة. أول ما شافوني انهاروا جميعاً في البكاء، واضح إن شكلي أبشع مما كنت أتخيل.. حكيت لهم عن اقتراح الصحفيين، وافقوا فوراً واتفقنا البنات تعمل حزام على الفيس، وأي حد يعلّق يدخلوا يطلبوا منه مسح البوست. هي أكيد غلطة والناس هتعرف غلطتها في ساعات أو بالكتير أيام وأخرج من غير صدام.

الزيارات خلصت على نص الليل تقريباً، ورجعت أحاول أنام بس برضه ما عرفت، قامت خناقة في الزنزانة بين عاشور ورجالته وأبو منة ورجالته، صراع على كرسي السلطة، والموضوع مش مجرد سلطة وبس، ده دخل يومي بالآلاف من البلطجة وتجارة المخدرات كمان.. وخرج السلاح اللي هو "المشرط" من تحت اللسان، والدم للركب، بس مش دم الأعداء زي خناقات الرجالة؛ لأ، ده كل واحد بيشّرَح نفسه !!

سألت بعد كده عرفت إن تقاليد "الجدعنة" والأصول اللي الكل بيدعيها في السجن إن السلاح لو طلع ما ينزلش إلا بالدم. طب ولو اللي بيتخانقوا شوية صيع وما عندهمش رجولة تشريح الأعداء وشرب دمهم؟ يبقى تنتهي الخناقة وكل واحد رفع سلاحه يشرح نفسه عشان يثبت للآخرين إنه ما شرحش عدوه ضعف منه، لأ ده هو قوي بدليل إنه بيشرح نفسه، بس الأصول والرجولة والعيش والملح منعته يشرح عدوه، والسلاح والرجالة يحضنوا بعض ويرفعوا إيد زميله ويقولوا: "فلان أخويا وحبيبي، ودي ساعة شيطان"، ويرجعوا، ويقعدوا يسكروا مع بعض.

مش مهم الخناقة وأطرافها، ما هما مجرمين في قلب بعض. المهم إن الجو فجأة بقى معبأ دخان وسجاير ومخدرات، وبدور على أكسجين في العنبر مش لاقي، ودم بيقع فوق مني وأنا قاعد على الأرض بتفرج، وبدأت أحس إني بموت وداخل في غيبوبة. ولقيت نفسي بسمع صدى صوت جاي من بعيد ومش عارف أحرك جسمي ولا حتى لساني.

بعد فترة طويلة، الناس لاحظت إني ما بتحركش. بيهزوني وبتحرك معاهم بدون كلام ولا حركة، راحوا مخبطين على الباب بجنون، ينادوا على السجان، ورعبهم عرفت سببه بعدين. الليلة اللي قبلها جالهم مسجون سياسي واخد إفراج، برضه الزحمة والحر والتكييف كان بايظ، الراجل مات!.

الباب اتفتح وشالوني، حطوني قدام باب الزنزانة، بس الطرقة اللي قدام الباب رطبة رطوبة بشعة وحرارتها أعلى من حرارة العنبر. السجان الأسود اللي اسمه عثمان بص عليا لقاني بحتضر، قال لهم: "ده نجيب له إسعاف ليه؟ ده ميت خلاص، حد يقول له الشهادتين في ودنه". الشباب صمموا على الإسعاف، قال لهم: "حرام عليكم، هتعاندوا أمر الله؟ ربنا رايد له الموتة دي"..

العيال رفضت منطق البقف الحقير ده، واضطر ينادي على ضابط صغير عامل فيها ناصح أوي، راح ماسك حلمة صدري ولفها بعنف وهو بيقرصها. صرخت وأنا في الغيبوبة، قال لهم: "شفتوا؟ مش بقول لكم هو مش مغمى عليه ولا حاجة؟ رجعوه بقى الزنزانة ولو مات نبقى ناخد جثته".

تحس يا أخي إنه بيتعامل معاك على إنك فرخة، مجرد رقم مالوش قيمة. الشباب رفضت ترجعني الحجز تحت شعار إن المشرحة مش ناقصة قتلى، ودخلوا وقفلوا الباب عليهم، واضطر الضابط يستدعي ضابط أعلى منه، اتصل بالمستشفى، وجت الإسعاف فوراً ونقلتني على مستشفى الهرم. كل ده أنا حاسس وواعي بيه بس لا قادر أحرك إيد ولا رجل، وحتى السمع، سامع الكلام كأنه صدى صوت جاي من بعيد.

في المستشفى، كان الدكتور في نفس نصاحة الضابط، مسك برضه نفس حلمة الصدر وقرصني بعنف رهيب خلاني أصوت تاني، مش عارف إيه الإغراء في حلمة صدري اللي الكل طمعان فيها؟!!

علّقوا لي محاليل لحد ما لقيت نفسي قادر أتحرك، وفُقت، لقيتني لابس شورت وفانلة داخلية وحافي، ومنظري طبعاً يصعب على الكافر. رجعنا القسم الفجر تقريباً، ونزلت من العربية حافي، ودخلت لقيت مجموعة ضباط قاعدين ومعاهم ضابط شاب تحت التمرين لسه، بص لي بتعالي وهو بيقول: "إنت بقى اللي عاملين عليك الدوشة دي كلها؟ ما إنت كويس أهه". حسيت بغضب شديد لدرجة فكرت أضربه، رجعت له وقلت بحزم: "زمان يا ابني كانوا بيختاروا الضباط من ولاد الناس اللي بتفهم الأصول، بس زمنكم اتغير وبقى زمن وسخ أوي"، وسيبته واقف عرقان ورجعت على الحجز تاني.

أنام بقى؟ إزاي؟ دي الآلهة حكمت عليا بعدم النوم زي سيزيف في الأساطير اليونانية. لسه بنزل على البطانية، لقيت السجان بينده: "محمد شومان، اطلع بسرعة". خرجت جاري على أساس إني أكيد مروح، لقيته بينده على الناس اللي هتتعرض على النيابة، وفضلت واقف في درجة حرارة كالجحيم من 6 صباحاً لحد 10 وهو بيجمع المساجين وحاجزنا في طرقة وسلم مليانين رطوبة وعرق، وأنا بيغمى عليّ واحدة واحدة. واتطوع بعض الشباب الصغير إنه يهوّي لي بكرتونة، بس ما فيش فايدة، الهوا نفسه خارج من جهنم، وعرقي انهار.

وقفت وكنت أول واحد ينادى عليه من المساجين، وبيجمعهم بطريقة عقيمة جداً، لدرجة بيحتاج حوالي أربع ساعات يومياً من المعاناة في سبيل إنه يجمع ستين سبعين واحد هيعرضوا على النيابة. شوية وراح مكلبشني مع مجرم شكله مدمن اسمه "خرابة". بقى أنا اتحط مع خرابة في كلبش يا بلد؟

فين لما جمع المساجين ومشينا طابور لحد عربية الترحيلات، وهي عربية سلمها عالي وبتاخد حوالي 24 فرد بالعافية، أنا كنت رقم 59 فيها، يعني ولا علبة السردين، والكل مولّع سجاير وبيشد مسحوق أبيض زي الهيروين، وجو العربية رهيب ولا يوم القيامة، ومكلبش معايا صديقي خرابة تاجر المخدرات اللي ولّع سيجارة هو كمان، وبدأت أدخل في غيبوبة للمرة التالتة. وفين لما وصلنا للنيابة في أكتوبر، وده أقذر مكان شفته في حياتي، بناسه ونظافته وعهره وادعاؤه التقوى والإيمان وهو بيستحل مالك بكل سماحة وتدين.

نزل خرابة من العربية وساحبني وراه وأنا مش عارف أنزل وكنت هقع من على سلم العربية، وببص لقيت بناتي وأمهم واقفين بيعيطوا على شكلي، وكنت في حالة صحية ونفسية منهارة لدرجة ما قدرتش حتى أشاور لهم. ونص نسوان مصر تقريباً في انتظار المعلم خرابة، وكل واحدة بتلمس هدومه كأنها بتتبارك بمقام سيدنا الحسين، مش فاهم ليه، بس واضح إن الأستاذ خرابة شخصية مهمة جداً في عالم المخدرات في الهرم.

طلعنا سلم خمس أدوار وأنا بنهج وبتسند على السلم وتقريباً ميت لحد ما وصلنا السطح، لقيت اتنين زنزانة حديد وسقفها صاج والشمس بتضرب فيها بتحولها إلى فرن ناري، ودخلونا الزنزانة متكلبشين برضه، والزنزانة من جوة مليانة زبالة وعلب فاضية وسجاير ومياه على الأرض، ولو حبيت تقعد تنظف مكانك برجليك وتزيح كوم من الزبالة قدامك لحد ما تكون هرم في ركن الزنزانة من مخلفات المساجين..

خرابة قعد وقعدت جنبه، وهو بيقول لي: "ما تزعلش يا خويا على اللي هعمله، الكيف وحش"، وراح مطلع برشامتين وبدأ يطحنهم لحد ما بقوا بودرة، ولف عشرة جنيه وعملها زي أنبوبة وابتدى يشد ويشم، وأنا بتابع العالم الآخر ده في انبهار!




إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال