مذكرات معتقل سياسي - الجزء العاشر

مذكرات معتقل سياسي. (10) 

بعد تجديد الحبس، ابتديت أفوق من الصدمة وأفكر بعقلانية. غالبًا أنا هاطوَّل في السجن، والقبض عليَّ مش غلطة ها يكتشفوها بسرعة ويخرجوني. لأ، أنا اتقبض عليَّ لهدف ما أنا مش عارفه، وغالبًا ورا الحكاية حكاية طويلة. وطالما كده كده مسجون، يبقى لازم أعيش الواقع وأستفيد منه. إزاي؟ إني أكتب التجربة لحظة بلحظة، وتبقى حكاية مبهرة نادر جدًا اللي بيمر بيها. مش بس كده، ده أنا كمان عايز أروح السجن وأبقى مسجون بجد، مش محتجز في قسم!

كلمت الناس الواسطة بتاعتي اللي بيزوروني إني أتنقل لسجن العشرة ونص. كان الكلام في الحجز عنه إنه هيلتون، مش سجن: مشوي ومقلي وساقع وسخن، ومعاملة محترمة، وناس بتدفع فلوس عشان تروح هناك. طبعًا التعيين في الحجز عيش معفن ماتعرفش ضهره من بطنه، ومكعبات مربى وحتة جبنة. ومافيش كانتين بيجيب حاجة غير المشاريب، ودي بتدخل في كيس من تحت عقب الباب، يعني تشرب الشاي من كيس بلاستيك!

بس السجن مش هايبقى فيه راحة بالنسبة لي، وماحدش ها يوصي عليَّ. مش مشكلة، أنا هاعرف أكيف أموري. طب بلاش كده، إنت راجل علماني، والسجن معظمه إخوان ودواعش وتكفيريين ممكن يدبحوك في لحظة. برضه مش مشكلة، أنا بحب المغامرات دي، ع الأقل هلاقي حواديت واقعية تتحكي.

والحقيقة أنا عملت اللي ماحدش جربه قبلي. رحت دار للإدمان للغلابة، ودار إدمان ولاد الذوات. في حلوان، دار الغلابة عبارة عن سجن بمعنى الكلمة، والعلاج هناك بالضرب والمنومات. تدخل تلاقي بلطجية يضربوك ويكسروا عينك زي تشريفة السجن، ويتمنع عنك المخدرات وتاخد منومات لحد ما تنسى الإدمان. وهناك قابلت راجل بقاله عشر سنين مسجون في الدار دي عشان خلاف على ورث مع أخوه. ولما بقول له أطلعك من هنا، رد بصدق وكسرة: "أطلع لمين؟ أنا ماليش حد برة، أهو ع الأقل هنا باكل وبشرب، وأخويا كتر خيره بيدفع لي الشهرية." الراجل يا عيني من كتر الإهانة والذل أصيب بما نسميه متلازمة ستوكهولم، وصبح بيعبد السجن والسجان.

أما دار إدمان الأثرياء في المعادي، فيها بقى ممرضات للدعارة، وتكييفات، ودكاترة تحت رجليك، وأمن بيجيب لك المخدرات وقت ما تحب. وده الفرق بين الغلبان اللي بيدفع 500 جنيه، والغني اللي بيدفع 30 ألف في الشهر!

ورحت مستشفى المجانين، ورحت مستعمرة الجذام، ورحت عمارات فيها عفاريت في إسكندرية ونمت فيها. ورحت البشعة، ودي حديدة سخنة بيلحسها المتهم، لو بريء مش ها يحصل حاجة، لو مذنب لسانه يورم ويموت. ورحت فتحت المندل، ورحت لقسيس بيعرف السارق عن طريق طفل صغير بيوصف الجريمة وهو مغمَّى وشه. ورحت شقة دعارة ورفضت أمارس العهر، لحد ما المعلم جمعة افتكرني شاذ. ودفعت الحساب لصديقي حفيد يوسف صديق اللي كان وصي على عرش مصر، دفعته وأنا ما عملتش حاجة. ورحت المعبد اليهودي، ونمت في الدير، واتناولت. وأظن إني المسلم الوحيد اللي شرب دم المسيح وأكل لحمه... مش فاكر إيه تاني، بس جربت كل حاجة بعمق. مش ناقص بقى غير إني أعيش مع مجرمين باسم الله!

في الفترة دي عرفت إن قرايبي المهمين كلهم اتخلوا عني. معاهم حق، ومش زعلان من موقفهم. أنا فعلًا بفتخر بيهم وبنجاحهم، ومش عايز مساعدة منهم ممكن تضرهم في شغلهم. بس كل واحد منا اختار طريقه، والطبيعي إن اختيارك صليب على كتفك. عارف إنك هاتتصلب عليه حتمًا في يوم من الأيام. ماتجيش بقى ساعة الصليب وتبكي وتهتف: "أخي، أخي، لماذا تركتني؟"

الأخطر جملة سمعتها بتتكرر من أكثر من صديق من الزوار: "شومان هايفضل في السجن لحد ما يعفن." والأخطر لما اللواء محمود صاحبي راح لمسؤول مهم وغلط، وقال له: "جات لنا أوامر نفتح تاني الأحراز بتاعة شومان." مسؤول مهم وبيجيله أمر؟ مين اللي بيؤمرك يا سعادة الباشا الكبير؟ واشمعنى ملف شومان تحديدًا؟

طالما هاموت وأعفن، يبقى أموت وتد مغروس في أرضها، ومش هاموت فار مذعور في ركن من زنزانة قذرة مع شوية عيال قوادين وتجار مخدرات. هاروح السجن وأموت، بس مش لوحدي!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال