مذكرات معتقل سياسي. (12)
التشريفة استمرت أكتر من ساعة وأنا واقف بتفرّج عليها، بس فكري كان مشغول بالمغامرة اللي ورطت نفسي فيها. أنا راجل بكره الإخوان، والسلفيين، والأزاهرة، والجماعات الوسطية قبل الجهادية، وكل الإسلام السياسي، وبشوفه خراب للبلد. وجاي برجليا ليهم، وهعيش معاهم شهور الله وحده يعلم هاتطول أد إيه..
بس طالما مسجون مسجون، يبقى أستفيد بمعرفة جديدة أو محاولة للتعرف على الجانب الإنساني في الآخر. وأنا مش خايف إنهم يغيروني، لأن فكري قائم على مبادئ راسخة، ولو غيروني يبقى هما الأصلح بالتأكيد.
أما بالنسبة لأنهم ممكن يضروني، فدي مش خايف منها. هما أجبن خلق الله، وعملياتهم دايمًا في الضلمة أو من الضهر. وأنا واقف بتفرّج على أمين الشرطة وهو بيشنكل راجل في الستينات ويحط رجله على رقبته ويدوس على وشه، والكل مستسلم لجبروت الأمين. الأمين بيريل بسعادة غامرة بيغطيها بتكشيرة زائفة. ووشه تنطبق عليه تمامًا تصنيفات لامبروزو عن شكل المجرم في علم الإجرام.
جالي عسكري يوديني للإيراد، وده المكان اللي بيتجمع فيه المتهمين الجداد في أي سجن لمدة أسبوعين قبل تسكينهم في العنابر، خوفًا من الأمراض وتأديبًا للمسجون. والإيراد مش وسط العنابر، ده يعتبر قريب من الاستقبال وبينهم باب حديد ضخم.
فتح العسكري الباب، وأفاجأ بأجمل ابتسامة في الدنيا من شيخ وسيم ملتحي. الشيخ شال شنطتي وعلق الجزمة على الحيطة، وقعدني على مصطبة خرسانة، وكان بيرحب بيا كأني جاي أخطب بنته البايرة. يا سلام يا ولاد! هو الإسلام حلو كده وأنا مش عارف؟
في الحجز مع الجنائيين، المقابلة الحلوة دي بتكون لراجل قتل قتيل، أو على الأقل مسجون مدة لا تقل عن خمس سنين. ويا حبذا لو كان في سجن العقرب! ده بياخد مكان الصدارة، وماحدش بياخد منه فردة ولا زيارة ولا حتى يومية الحمام. الأقدمية عند الجنائي ليها اعتبارها، وتبقى السهرة هو بطلها لما يحكي بطولات مشاهير المجرمين في السجن اللي جاي منه!
جاب لي كباية مياه ساقعة، بس رفضتها لأني ما بشربش مياه من الحنفية وريحتها واضحة. واحد سألني: "جاي في إيه؟" قام التاني قال له: "عيب عليك، الأول ياكل ويستحمى، وبعدين نتكلم! تاكل ولا تستحمى الأول؟ عندنا حمام أفرنجي ودش وسخان".
حمام أفرنجي في السجن؟ يبقى أنا فعلًا وصلت الهيلتون! كفاية إني رقم 17 في مكان أكبر من حجز القسم اللي كان فيه 65، يعني هاعرف أتنفس على الأقل. الحمام في الحجز متر ونص ف متر، وقاعد فيه تلاتة بيفصلك عنهم ستارة ما بتداريش حتى عورتك.
واحد قال لي: "استحمى يا شيخ.."، وعرفني على نفسه: "أنا الشيخ ناصر، مأذون إمبابة." وأنا قلت له: "وأنا محمد شومان.. وبس."
استحميت، وغيرت، وخرجت أتمتع بنظرات الحب في عيون الـ17 سجين في الإيراد. قعدت على مصطبة تانية. فيه ست مصاطب، كل واحدة تشيل فردين بالطول، والباقي بينام على مراتب تاكي معفنة على الأرض.
قرب مني واحد، من غير سلام وبأدب زايد، وقال: "أنا اسمي فلان، مهندس زراعي.. وجربان!" ابتسمت من النكتة، لكن لقيته بيتكلم بجدية: "لأ بجد، أنا جربان أنا والمقاول اللي هناك ده. بس أنا بعترف وهو بينكر. وسيادتك دلوقتي قاعد على المصطبة بتاعتي. ياريت تقوم وتقلع البنطلون وتغسله بالديتول، لحسن يجيلك جرب!".
يا دي الليلة السودة! بقى أنا أرمي نفسي في التهلكة برجليا وأنا أصلاً راجل بقرف من خيالي؟ قمت بغضب من نفسي، فتحت الشنطة، وطلعت علبة سجاير. وقفت عند الباب اللي فيه نضارة وولّعت سيجارة.
ورايا جه واحد فرحان بيا: "أهلًا أبو زمل! جيت في وقتك، لأني الوحيد اللي بيشرب سجاير هنا. هات بقى سيجارة!"، عرفني بنفسه: "أنا رضا أباظة، صحفي من الوراق، وسيساوي بعبد تراب السيسي، وعشان كده الكل هنا بيكرهوني".
ببص على الكل عشان أتمتع بنظرات الحب اللي في عينيهم لي، لقيتها اتسحبت. طبعًا، مادام بشرب سجاير يبقى مش من رجالتهم.
سألت رضا: "طب وإنت هنا ليه طالما خاين وعميل ومش مصري؟" عداها بابتسامة. الحقيقة هو شخص مرن ولطيف، وواطي، من أوطى الناس اللي ممكن تقابلهم. بس بحبه لأنه لطيف وهون عليا كتير، وبرضه أنضف من الإسلاميين. رد بمرح: "أنا كنت في الانتخابات الأخيرة بتاعة مستقبل وطن".
قلت له: "إيه مستقبل وطن ده؟".
قال: "ده حزب السيسي الجديد وبديل الحزب الوطني. إنت ميح خالص؟".
رديت: "والله يا حبيبي ما أعرف اسم رئيس الوزارة حتى. المهم، طالما قواد، بيقبضوا عليك ليه؟".
رد بابتسامة: "أبدًا، عملت مشكلة أنا وصديق ليا مرمي جوة أهو، مع ظباط التأمين في اللجنة. وجابوني هنا أمن دولة قرصة ودن يعني كده، عشان أعرف حدودي".
وأنا بتكلم مع رضا، ودني وعيني بيتابعوا اللي بيحصل جوة بعد ما عرفوا إني مش من رجالتهم. لقيتهم رمولي مرتبة في أحقر حتة في العنبر، وبعيدة عن المراوح. وسامعهم جوة في حجرة الإدارة، أو الحجرة الملحقة بالعنبر. واضح إن اللي فيها مهمين، لأن فيها مروحة مخصوص.
سمعت واحد بيقول بصوت عصبي: "ده بيشرب مياه معدنية! عارفين يعني إيه مياه معدنية؟" تقريبًا دي تاني تهمة عليا، إني بشرب مياه معدنية، بعد تهمة شرب السجاير. ربنا يحفظنا وإياكم من الكفر!