مذكرات معتقل سياسي - الجزء الرابع عشر

مذكرات معتقل سياسي. (14)

وهكذا توغل الإسلام في الشارع المصري دون أن يجد مقاومة تُذكر، لأن السادات قد تكفل بتهميش المثقفين جميعًا، فأصبح الشعب المصري محكومًا من التيارات الدينية في غيبة السياسيين. ويصبح الشعراوي هو رئيس دولة مصر المسلمة، في مقابل البابا شنودة رئيس دولة المسيحيين في مصر!

وهنا يتم قتل فرج فودة، وذبح نجيب محفوظ، وتحجيب الفنانات وأسلمة المسيحيات بدعم من مملكة الخراب. قيل إن الدعم وصل إلى أرقام فلكية تتعدى العشرة أصفار. و"تتوهبن" الدولة المصرية بقيادة المرحوم محمد بن عبد الوهاب.

كانت النتيجة هي وصول مرسي للحكم بدعم يقترب من نصف الشارع المصري، ليكتشف الجميع أن الإسلام لا يصلح كعقيدة سياسية. وهو ما اكتشفه ناصر مبكرًا سنة 1953 في حديث لمجلة ألمانية، حيث قال إنه لا يدري كيف يمكن الحكم بالإسلام، فهو لا يصلح إلا كعقيدة وليس كنظام حكم. ومرّ نصف قرن ليكتشف الشعب صدق هذه المقولة، فيزيح الإسلام من الحكم ويُولي الجيش مكانه.

ولكن السيسي لم يفهم يومها أن الشعب في حاجة إلى أتاتورك جديد، فتفلت الفرصة من يده لتحويل مصر إلى دولة علمانية. ربما لم نكن مؤهلين بعد للعلمانية، ولكننا كنا قد ضقنا جميعًا من سيطرة الكهنة، وفلتت الفرصة.

بعد عزل مرسي، قامت الدولة بالقبض على كل قيادات الإخوان في الداخل، من رئيس الجمهورية والمرشد العام إلى نجوم المرحلة كلهم. وهرب البعض منهم في حماية دول الأعداء. كانت المرحلة الثانية هي القبض على إخوان الصف الثاني، وهم نجوم المحافظات والقرى والنجوع وقادة الفكر الديني في بر مصر المحروسة.

المرحلة الثالثة نعيشها اليوم، ورأيتها بعيني، وهي القبض على من كنا نطلق عليهم، على سبيل السخرية على الفيس: الناس اللي مش إخوان بس بيحترموهم، أو الإخوان بالهوى فقط، أو اللي كانوا إخوان من 30 سنة مثلًا، أو أولاد الإخوان وقرايبهم. يعني الموجة التالتة دي أخطر موجة، لأنها بتقلع جذور الإخوان تمامًا من الأرض. بس يا ترى، هل تكفي الملاحقة العسكرية والسجون دون دعم ثقافي؟

في السجون، الكل بينكر إنه إخواني، والكل بيقول إنه ضد الإخوان من بعد سنة 2013. وهي مقولة مراوغة في الحقيقة. أنتم فعلًا مش إخوان، بس لأن الإخوان ماتت سنة 2014. يعني أنتم كذابين إنكم سيبتوا الإخوان، الإخوان هي اللي غدرت بيكم وانتحرت على يد مرسي.

وللأمانة، أنا لقيت صفات إيجابية كتير في الإخوان المسجونين. الأول: أي عنبر لازم يكون ليه "نوباتشي".

بالنسبة للإيراد، كان اسمه عبده. وده كان الأكثر خدمة في الغرفة، يكنس ويغسل المواعين وينظف الحمام، بدون ما ينطق بكلمة. وساعة الأكل بيتوزع بالعدل، ولو كان رغيف واحد. حتى الفاكهة بتتوزع بعدالة مطلقة، ولو كان نصيبك ثلاث عنبات مثلًا أو ربع تفاحة. والشيخ ناصر مسؤول عن حل المنازعات بين المجموعة. وعندنا الشيخ خالد المصري مسؤول المطبخ والعلاقات الخارجية مع الكانتين والعساكر..

الشيخ خالد ده راجل في الأربعينات، أقرع، بنظارة وكرش وقصير. صوته عالي لدرجة الإزعاج، وكان تلميذًا مخلصًا لمفتي السعودية الأشهر "ابن عثيمين"، ومن مؤسسي "المرصد الإسلامي". وكان بيشتغل معاه في البداية "وائل غنيم" في فترة انضمامه للإخوان. وله قناة على اليوتيوب فيها فيديو تعدت مشاهدته المليون مشاهدة، تحت عنوان "فخر العرب"، وده واحد من المجاهدين السعوديين في جبال أفغانستان!

تجنبته أول ما دخلت، لحد ما لقيته بيتكلم في الدين بفهم. قلت: ده ما ينفعش أتجنبه. وسهرت معاه ليلة بسأله مبدئيًا عن تاريخ الصلاة في الإسلام، وعن حادثة الإفك. لقيت عنده معلومات طيبة لحد ما، ولكن.. معلومات مدجنة، مش معلومات حقيقية زي معظم السلفيين.

بيحكي لي الشيخ خالد إن جيش المسلمين دخل مدينة مش فاكر هي إيه واحتلها رغم إنها حصينة للغاية، بس هم لقوا ثغرة فيها واحتلوها بسرعة. المسيحيين اللي في المدينة استغاثوا بالعادل عمر بن الخطاب: مش أنتم يا مسلمين بتخيروا المدن بين الإسلام أو الجزية أو الحرب؟ الجيش بتاعكم احتلنا بدون ما يخيرنا. وهنا كان قرار الخليفة العادل إن الجيش يخرج من المدينة ويبعت يخيرهم الأول. وهنا أسلم جميع من في المدينة، بس ما كانش فيه يهودي معدي وعيط وأسلم.

طبعًا أنا جالي شلل من كلامه اللي بيحكيه بصوته العالي وبيسمعه الجميع وهم فرحانين بالدين المتين الجميل بتاعهم! اتكلمت أنا والشيخ خالد في عشرات الموضوعات، ولقيت إنه سلفي من طراز سلفية الحويني. يعني بيبلع كل التراث ويبرره بدون ما يعديه على عقله. هو مؤمن عميق الإيمان بدون سؤال. بس صبح صديقي لأنه راجل طيب في الحقيقة، وكان بيحاول يخليني آكل بالعافية، ومالى العنبر دوشة كنا محتاجينها في الوقت ده.

صديقي الثاني اللي طلعت بيه من السجن كان الشيخ ناصر. كان تبليغ ودعوة وسابهم وراح للسلفيين. ليه بقى؟ لأنهم شايفين إن التبليغ والدعوة مرتبطة بأمن الدولة، ولو حد فيهم فكر يتكلم سياسة فورًا بيبلغوا عنه. مش عارف دي حقيقة ولا لأ، بس اللي واثق منه إن الشيخ ناصر من أجمل الناس اللي قابلتهم هناك.

ولقيت هناك شاب بلدياتي من العياط، اسمه أحمد نادر. ده جاي من سجن العقرب بعد تلات سنين قضاهم هناك واتدور. يعني إيه بقى عقرب؟ ويعني إيه اتدور؟


سجن العقرب ده تاني أفظع سجون مصر بعد سجن العزولي في طريق الإسماعيلية. سجن العزولي بتتسجن وانت متغمى ومتكلبش طول الفترة، وحتى الحمام بتدخله متغمى ومتكلبش. وهو في منطقة عسكرية ممنوع دخولها ولا حتى لمنظمات حقوق الإنسان. وماشفتش حد عاش هناك قبل كده، لأنه مخصص لأخطر الإرهابيين.

أما سجن العقرب، فهو قمة الرعب للمساجين في مصر. وكان فيه أحمد نادر والشيخ إبراهيم. أحمد تهمته إن أبوه وأخوه محكوم عليهم بالإعدام غيابي. واحد هربان في قطر، والتاني في تركيا. قبضوا على أحمد باعتباره رهينة. والحقيقة برضه أنا مش مصدقه، لأن العياط بلدي وعارف إن معظم اللي فيها إخوان، وغالبًا أحمد منهم، بس كالعادة بينكر.

أما سجن العقرب، فالحجز فيه قد الحمام، بيعيش فيه تسع أفراد على تلات مصاطب، كل مصطبة تلات أدوار. يعني بيناموا فوق بعض. وساعة الأكل مستحيل يتجمعوا لأن المكان ضيق للغاية. وممنوع فيه الزيارات تمامًا، وممنوع التريض كمان. يعني تقضي الفترة كلها متعلق فوق مصطبة بدون ما تشم هوا أو تقابل حد من أهلك أو حتى المحامي بتاعك. واللي بيخرج منه على سجن تاني يعتبر بطل لأنه قدر يستحمل الحياة هناك.

بعد تلات سنين قضاهم أحمد هناك، أفرجوا عنه وراح قسم العياط. بس أمن الدولة دوره، يعني عملوا له قضية جديدة تمنعه من الخروج. ورجع تاني للجهاز اللي حوله على سجن العشرة ونص. ولما اتعرض أحمد قدام النيابة، بكى لوكيل النيابة إنه ما يفرجش عنه، لأنه لو أفرج عنه أمن الدولة هاتدوره ويمكن يروح تاني العقرب. وهو سعيد جدًا في السجن هنا وبيعتبره لعب عيال.

بس أحمد كان السبب في مصيبة للجميع. خارج زيارة ولابس شورت هاواي وتي شيرت ملون مرسوم عليه ميكي. قابله واحد مدني وقال له: "انت رايح فين ياض بلبس العيال اللي انت لابسه ده؟" أحمد رد عليه بخشونة. الراجل قال له: "انت مش عارف أنا مين؟" قال له: "ايا كنت هتعمل فيا إيه؟ ده أنا جاي من تلات سنين عقرب!" طلع اللي بيكلمه ضابط أمن الدولة اللي في السجن. وأمر إن كل المساجين تلبس أبيض خارج الزنزانة، ولو حتى رايحين للدكتور أو نازلين جلسة. واتفرضت علينا جميعًا البدلة البيضاء بسبب أحمد وميكي ماوس بتاعه!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال