مذكرات معتقل سياسي. (15)
أول ليلة ليا في الإيراد عملت بلبلة لمجموعة الإخوان، مش عارفين يصنفوني، وأنا من ناحيتي مش ناوي لا أكذب ولا أدخل معاهم في صراع. فضلوا يلفوا ويدوروا عشان يعرفوا فكري إيه. أنا ببساطة قلت لهم: أنا علماني. ما حدش فهم يعني إيه علماني، بس طالما ما قلتش إني تابع للإسلام السياسي يبقى أكيد كافر.
حطولي مرتبة قذرة زي كل المراتب، بس بعيدة عن المروحة، في آخر مكان في العنبر. ما عرفت أنام من قرفي منها ومن الحر اللعين. كنا في أواخر شهر أغسطس. الفجر لقيت واحد منهم بيأذن للصلاة. دخلت توضيت وقعدت على المصطبة أصلي وأنا قاعد. الحقيقة، كنت نسيت صلاة الجماعة بيصلوها إزاي، فقلت أعفي نفسي من الإحراج وأقعد. بس اكتشفت بعد كام يوم إني كنت قاعد عكس القبلة، وما حدش فكر ينبهني للخطأ الفظيع ده. يمكن تخيلوا إن العلمانيين بيصلوا شمال ولا مؤاخذة.
الصبح واحد اترحل فورًا، احتليت مكانه على المصطبة اللي في الناحية التانية منها "محسن الجربان". مش مهم، المهم أبقى تحت المروحة. صليت معاهم كل الصلوات. وجالي الشيخ إبراهيم، ده راجل في الأربعينات، مهذب جدًا وقارئ كويس. ده كان في سجن العقرب تلات سنين، واتدور برضه من سبع شهور.
بيحكي لي إنه أول مرة يكلم أهله بعد سنتين ونص، أمه ومراته بكوا وما عرفوش يتكلموا. وهو في الناحية التانية بيبكي برضه وما اتكلمش. طب ليه ما اتكلمتوش الفترة دي كلها؟ التليفونات ممنوعة تمامًا، ولو ظبطوا فون مع حد بيدخلوه التأديب. وما أدراك ما التأديب!
لتأديب حجرة أصغر من الحمام ومن غير حمام ولا نظارة ولا مروحة. معاك جردك لقضاء الحاجة ورغيف عيش يوميًا وحتة جبنة يترموا لك من تحت الباب. وبعدين التليفون الصغير اللي بيسموه "الصرصار"، اللي هو النوكيا، بحوالي 200 جنيه، بس جوة سجن العقرب وصل تمنه لـ23 ألف جنيه !!
إبراهيم نقاش، وأبوه بيشتغل في هيئة النظافة. هو فخور بكده وبيكررها كتير. اتقبض عليه في قضية اسمها "حسم"، يعني الحركة الإسلامية المسلحة. هو طبعًا بينكر أي صلة ليه بالجماعة دول، بس كل المساجين بينكروا التهمة، على عكس الجنائيين اللي بيعترفوا فورًا وبدون ما تسألهم حتى.
الشيخ إبراهيم جاي يسألني يعني إيه علماني، بس بطريقة مش مباشرة، لأن الناس قلقانة مني ومستغربين إزاي علماني يصلي معاهم. قلت له: العلمانية فكر مالوش علاقة بالدين. يعني ممكن تكون مسلم علماني أو مسيحي أو ملحد وعلماني برضه. بالنسبة لي أنا يا شيخ إبراهيم فأنا صوفي!!!
بس برضه الناس مش مستريحة ليا؛ لأني مش إخواني أو سلفي، والأهم من كده لأني بكتب مذكراتي. يبقى مرشد لأمن الدولة فورًا، أو على الأقل خطر علينا لأن الورق ممكن يقع في إيد حد ساعة التفتيش.
النور بيقطع كتير ودرجة الحرارة من جهنم. اتولى محسن مهمة إنه يهوّي لي بحتة كرتونة لما النور يقطع. ومرة جالي مصطفى، الفتوة بتاع العنبر، وحط فوق راسي ميّه بتلج؛ لأني فعلًا بتخنق من الحر وبأدخل في شبه غيبوبة. ومرة جابولي الدكتور، وهو سجين زينا، ومعاه جهاز توسيع الشعب الهوائية. وكانت فرصة إني أخرج برة العنبر شوية !!
ومعانا في غرفة القيادة "تامر" من البدرشين. ده ما بيكلمش حد ومقضيها نوم. جالي الفجرية على النظارة وحكى لي حكايته. اتقبض عليه بتهمة انضمام، وراح سجن العقرب تلات سنين. بعدها رجع على قسم البدرشين ودوروه تاني. فضل في القسم شهر، وأبوه مات في الوقت ده.
بعد وفاة أبوه بأربع أيام حصل تفتيش من الداخلية على القسم. اللواء اللي بيفتش سأل لو حد عنده شكوى؟ تامر قال له: أنا محبوس هنا ظلم واسمي حتى مش نازل في كشوفات القسم، وأبويا مات من أربع أيام وعايز ألحق العزا وأقف مع أمي. اللواء المفتش طلب تمام الحجز، ولقى تامر فعلًا مش مسجل. قال له: أنا هقلب الدنيا وأروحك، ما تخفش، انت في إيد أمينة.
مفيش نص ساعة وأمن الدولة بعت يستدعيه. بقى: انت بتشكينا للواء في التفتيش يا كلب؟ انت ما تعرفش إن عسكري عندنا أقوى من اللواء بتاعك ده؟ واترحل على سجن العقرب تاني لمدة سنتين، وراجع نفسه يروح المرة دي بعد خمس سنين حبس احتياطي !!
طب أقول إيه؟ الله الأمر من قبل ومن بعد..