مذكرات معتقل سياسي - الجزء السادس عشر

مذكرات معتقل سياسي. (16)

"وانت كمان يا رب، إوعى تبص على عورتي!". (خالد)

قلنا إن تامر بتاع البدرشين أخد سنتين سجن لأنه تجرأ واشتكى أمن الدولة لمفتش الداخلية. دي نص الصورة، أو الصورة اللي بنحب إحنا نشوفها كمساجين بندّعي دايماً المظلومية. تعالوا نشوف نص الصورة الثاني من موقفين.

الموقف الأول كان لتامر نفسه. في يوم جالنا أكل كتير في الإيراد، ولأن الجو كان حار جداً، الأكل بيبوظ خلال ساعات. اقترحت على الشيخ خالد إننا ندي الفراخ للعساكر اللي برة، والشيخ خالد السلفي وافق، بس فوجئت بتامر بيعترض بعنف:

- حرام ندي الأكل للكفرة الظلمة !
- قلت له: "بس الأكل هايتّرمي يا تامر!
- رد: ولو.. يترمي والصراصير تاكله أحسن ما ياكله الجنود الكفرة.

والحقيقة إن كل الفصائل الإسلامية بتكفّر الجيش والشرطة، وبتكفّر أي حد بيشتغل في الدولة، لأنه كده بيساعد "الطاغوت" على ظلم رجال الله، اللي هما طبعاً فصائل الإسلام السياسي. يمكن التبليغ والدعوة ما بيكفّروش حد كسياسة عامة، بس برضه الأفراد نفسها متقبلة المبدأ حتى لو تعارض مع مبادئ الجماعة.

الإخوان، طبعاً، بيكرهوا النظام والسيسي أكتر من كرههم للشيطان نفسه، لدرجة الوقوف في صف تركيا ضد مصر، والانبطاح لأي دولة إسلامية دون اعتبار للأرض والوطن والحدود والعلم. لأن دي كلها كفريات ضد فكرهم. وده عبّر عنه مهدي عاكف بكل صراحة لما قال: "طظ في مصر". الناس دي انتماؤها للدين خيانة للوطن بكل صراحة.

طبعاً السلفيين والدواعش بيكفّروا الجميع، بما فيهم الإخوان والتبليغ والدعوة، وحتى فصائل الإسلام الجهادي، باعتبار إنهم هما بس المسلمين، واحنا كفرة. ده موقف أو لمحة صغيرة تبيّن لنا إن أمن الدولة ماكانش غلطان لما اعتقله لأنه خطر على المجتمع.

عارف إنك هتزعل مني يا تامر، انت وكثير من المعتقلين، بس أنا برصد ظاهرة من الجانبين، مش من وجهة نظري كمعتقل بس !!

الموقف التاني: في يوم الباب اتفتح واترمى واحد جوة واتقفل بسرعة. -نوضح بس الموقف جوة الزنزانة- لما فهمنا وبقينا عارفين القواعد: لما توصل لعدد معين عندك، يبقى من حقك ترفض مسجون جديد. اللي بيحصل إننا بنقف جميعاً قدام الباب ونقول للضابط اللي جايبه: "مافيش مكان، واحنا مخنوقين من كتر العدد".

واحنا فعلاً بنوصل لمرحلة إننا مش لاقيين أكسجين جوة الحجز، لدرجة إني كنت بقف على النضارة بالساعات عشان أجيب نسمة هوا من برة الزنزانة. ومهما كان الضابط عنيف، بس قدام إصرارنا جميعاً، بيتفهم الرفض وينسحب. بس دي عرفناها بعد ما وصل العدد لـ35 سجين في عنبر لا يحتمل أكثر من 18 فرد بالكثير.

شاب في العشرينات رماه السجان قبل ما نعترض على دخوله. جينا نوقفه، ماقدرش يقف. سألناه: "جاي منين يا بني؟".

رد بصعوبة إنه جاي من أمن الدولة، وابتدى يبكي وينكمش في نفسه جنب الحيطة، ويصرخ: "أبوس إيدك، ما تضربنيش وأنا هاعترف بكل حاجة!!".

طبعاً حالة نموذجية تشفي غليلنا من أمن الدولة، وخصوصاً لما لقينا الشاب ده بيزحف على إيديه ورجليه ومش قادر يمشي. بعتنا للدكتور اللي كشف عليه، ولقى التهابات حادة حول فتحة الشرج، وكتب له على مرهم مضاد حيوي. بس الولد كان بيزحف حوالينا، ويبوس كل واحد في كتفه، أو ينام على حجره، والكل بيبكي عليه.. إلا أنا. مش عارف ليه مش حاسس بتعاطف معاه.

تاني يوم النوبتشي بتاع العنبر نزل جلسة، وهو راح قعد مكانه وقال: "أنا النوبتشي من هنا ورايح".

وكان الموضوع كوميدي في البداية، لحد ما جه النوبتشي ورفض إنه يسيب له مكانه. الناس بتحاول تفهمه إن النوبتشي بالانتخاب مش بالعافية، وهو مصر إنه النوبتشي ومش هيسيب مكانه.

فجأة راح ضارب النوبتشي بـ"الروسية" في مناخيره، كسر له مناخيره وغرقه دم. الرجالة كتفوه وخبطوا على الباب لحد ما جه الظابط أحمد بيه شومان، ووقف يكلمه، راح ضربه روسية برضه غرقه دم.

راحوا مدخلينه القفص وكلبشوه خلفي. وبعد ساعات عسكري رايح يودي له أكل، بيقول له: "هافكك بس خليك محترم." وقبل ما يفكه وهو بينزل له الطبق، راح ماسكه من ودنه بـ"سنانه" وقطعها !!

نسيت أقول إنه لما لقيني مش متعاطف معاه وقرفان منه، جه قعد على الفرشة اللي جنبي، وبيدعي ربنا:

"يا رب، ما تخليش حد يكشف عورتي تاني زي الدكتور ما كشفها من شوية. ولا انت كمان يا رب تبص على عورتي، مش انت علمتني إن العورة حرام؟ وكمان عايزك تخرجني يا رب أرجع بيتنا وأخطب في الجامع، وأخلي الناس تفهم الحقيقة اللي انت مفهمهالي وهما مش عارفينها. وأخليهم يعملوا زي ما بعمل ولو بالعافية، عشان أنا متربي على إيدك انت يا رب. بس برضه يا رب بأكد عليك: إوعى تبص على عورتي!!".

دي نماذج من الناس اللي بيقبض عليها الأمن الوطني. طبعاً هنلاقي في الحبس مظاليم، بس الغالبية أقدر بصدر مستريح أقول إنها فعلاً تستاهل الحرق مش السجن..

وده ما يعنيش انحيازي للأمن الوطني، ولو إنه انحياز مشروع، ولا يعني كره أعمى للإسلام السياسي، ولو إنه كره في الله مشروع. ولكن معناه إني بقرأ الصورة من الناحيتين، لأني بعتبر الكتابة عن فترة السجن تأريخ لفترة السيسي ماحدش قبلي عملها. حتى الإخوان في الستينات بالغوا كتير جداً في وصف السجون الناصرية.

ده ما يمنعش إن أدبيات الإخوان ساعدتهم كتير في التأقلم مع السجن، وتحويله من مأساة إلى جهاد في سبيل الله. كلما زاد العناء، كلما ازدادت المنزلة عند الله. وللأسف، أنا كنت بعاني أنا كمان، بس ماكنش في سبيل الله زي ما اعترفت لهم. كان لوجه الوطن أولاً وأخيراً. وبالتالي مكتوب عليا أعاني بدون أجر الجهاد، ومش هلاقي 72 جارية في انتظاري هناك في جنة المسلمين !!

وده ما يمنعش إني أشكر في أدبيات الإخوان اللي علمتهم يقضوا الفترة ما بين المرح والجد. المرح في ألعاب جماعية بيخترعوها بتضم كل العنبر، زي لعبة "جاسوس في المدينة"، ودي فعلاً مسلية وبتحتمل أي عدد مهما كبر.

والجد متمثل في حلقات الدروس الدينية، والمواعظ، والتفسير، واستضافة شخصيات من داخل العنبر تحكي لنا عن تجربتها. ومرة استضافوني في حلقة هكتب عنها بالتفصيل. الجد كمان في المقرأة، يعني قراءة القرآن بالأسلوب الصحيح كما علمه جبريل للنبي.

الجد في صلاة التهجد اللي الكل بيقوم بيها تقريباً إلا أنا. الجد في الصيام يومياً تقريباً. الجد في ختم القرآن كل ثلاث أيام إلى أسبوع، ودعاء ختم القرآن بصوت عالي وكلنا نؤمن عليه.

ماقدرش أنكر إني استفدت معرفة بأعماق الشخصية الإخوانية في فترة الـ 220 يوم الملعونين دول. في النهاية إحنا بشر عايشين مع بعض 24 ساعة في اليوم، لدرجة كنت بعرف مين اللي في الحمام من ريحته ومن الأصوات اللي بيطلعها جوه.

يعني عرفنا بعض معرفة عميقة للغاية كان يمكن أن تكون حميمة، لولا الكتابة. أيوة، كتابتي لمذكراتي كانت مصدر قلق للجميع، وأكتر من القلق كمان زي ما اكتشفت، بس متأخر !!

إرسال تعليق

أحدث أقدم

نموذج الاتصال