مذكرات معتقل سياسي (8)
في حجز عشرة بقسم الهرم، كنا 65 متهم، منهم حوالي عشرة قضايا متنوعة ما بين سلاح بدون ترخيص، أو تزويج قاصرات للعرب، أو عمليات نصب متنوعة، والباقي كله تجارة وتعاطي المخدرات. والغالبية في المرحلة العمرية بين العشرين والأربعين، لكن من الصعب جدًا تقييم حوار مع واحد منهم، لأنه غالبًا مسطول، ولو فايق مش بيعرف يركز ويسمع جملة للنهاية. والدين عندهم هامشي، وعلى اللسان بس، ماكنش فيهم أكثر من تلاتة بيصلوا، والباقي بيسبوا الدين للّي بيتكلموا عشان يوطّوا صوتهم، عشان فيه ناس بتصلي، بس كلمة "يارب" دايمًا موجودة على لسانهم بدون محاولة للتقرب من هذا الرب.
مرة اتفتح الباب، ودخل راجل لابس قميص وبنطلون بس، أعمى. الكل جرى عليه بخضوع رهيب وقلعوه الجزمة وقالوا له: "اتفضل يا سيدنا الشيخ"، والبلطجي شخصيًا اتنازل له عن مكانه المميز، والكل بيبوس على إيده ويقول له: "ادعيلنا يا سيدنا الشيخ". والصورة دي لم تتغير حتى لما قال إنه ممسوك بنص كيلو هيروين، برضه فضِل "سيدنا الشيخ" لوجود ارتباط ما في ذهن المصريين بين الأعمى ورجل الدين!
والجنائي، على عكس السياسي، بيعترف بكل بساطة إنه تاجر مخدرات فعلًا، ومش فارق معاه رأي المجتمع. يفرق بس معاه "البيه" الظابط، والأهم من المجتمع والظابط هو إنه يعمل لنفسه اسم بين المجرمين، زي فلان اللي في سجن القناطر، اللي المأمور بيقدم له ورقة الزيارات وهو يقول مين يدخل ومين لأ، أو علان اللي في سجن طرة اللي بيحشش في مكتب المأمور. واضح طبعًا إنها قصص خيالية مستحيل تحصل، بس هما برضه من حقهم يخلقوا لهم أبطال من ورق زي السياسيين وباقي طوائف المجتمع المصري.
وتلاحظ تشابه بينهم وبين البدوي، فهو كريم زي البدو، بس بعد ما يعزمك على غدوة تكلفه خمسين جنيه، يسرق منك ولاعة بخمسة جنيه، ولو حس إنك قوي بجد هايركع قدامك فورًا ويتحول إلى عبد ذليل، بس لفترة مؤقتة، لحد ما يضرب برشامتين يدوله إحساس زائف بالقوة، أو يحتمي وسط عصابته. ساعتها يتحول إلى شيطان معدوم الضمير، ممكن يرتكب أفظع الجرائم بدم بارد، وتلاقي نفسك مش مصدق الشاب الغلبان الطيب ده إزاي يكون مغتصب أو مسجل سرقة بالإكراه.
والأسلوب الوحيد اللي يخليه يعترف هو الضرب، وده تقليد مصري صميم من آلاف السنين، وبشكل عام جدًا ما بيحسش بالمهانة لما يضربه ظابط، ده بيفتخر إنه رغم الضرب قدر ينكر التهمة مثلًا، أو اعترف نص اعتراف. يعني قدام السلطة بتنعدم لديهم جينات الكرامة تمامًا، وقدام الضحية بتنعدم لديهم جينات الرحمة والضمير تمامًا.
طب تقدر تكره الجنائي ده؟ الحقيقة لأ، ده ضحية مجتمع فاسد ومنعدم التربية والقدوة. ولو قلنا إن جيل الستينات كان عنده الآلاف من النجوم في كافة المجالات، كل واحد منهم يصلح قدوة، لكن للأسف انتهت المرحلة دي بالهزيمة العسكرية اللي سببت إحباط للجميع. بس على الأقل اتجهوا للدين مش للمخدرات، وفضل الدين هو حائط الصد المنيع أمام الإحباطات المتتالية اللي مر بيها شعبنا الغلبان، لحد ما وصل الإسلام للسلطة على يد مرسي، وهنا مات الدين كحائط صد ضد الإحباط واليأس والعجز والدونية واللاجدوى.
وخرج الشباب من تحت عباءة الدين ليبحثوا عن قدوة في مجتمع فاسد، وهو ما عبّر عن نفسه في الممثل محمد رمضان وباقي رفاقه من المغنيين والراقصات ونجوم الكرة. حتى في السياسة لم يظهر سياسي واحد أو صحفي نراهن عليه باعتباره الحصان الأسود، فالكل نتاج وعي الجماهير المقهورة، كلهم محمد رمضان وشعبان عبد الرحيم، وانهار المجتمع تمامًا ليجد الشباب أنه لا مفر أمامهم من الهروب من الواقع المحبط إلى غيبوبة برشام الصراصير والاستروكس والباودر والآيس!
الجيل ده يا جماعة مظلوم من الجميع، هو مالقاش حد يربيه لأن الأسرة نفسها في حاجة للتربية، والمجتمع في حاجة للنسف والبناء من جديد. ومستحيل الجيل اللي ماشفش "مصر المصرية" اللي إحنا عشناها يقدر يرجعها تاني. ده جيل "بزرميط" لأننا دمرناه بإيدينا.
مرة دخل الظابط "إيهاب بحر"، وهو من أجدع ظباط القسم، وعمل "دكة" للحجز. والدكة يعني بيدك الحجز ويفتشه تفتيش قوي ما يسيبش حاجة إلا لما يفتحها ويشوفها. وبعد ما خلص الدكة ولم الممنوعات، دخل المساجين تاني في الخرابة اللي عملها؛ كل حاجة مرمية على الأرض: الأكل على المياه على الهدوم. ويومها سرقوا مني فانلات داخلية "فان هاوزن" ومعظم حاجتي تقريبًا..
المهم، دخل ورانا الحجز وادى الطبنجة لزميله وقال له: "اقفل الباب علينا". زميله خايف من وجود ظابط لوحده وسط 65 مجرم جنائي، شخط فيه وقال له: "اقفل الحجز". ووقف يبص للجميع باحتقار وقال: "عارفين أنا سايب الطبنجة برة ليه؟ لأنكم كلاب أحقر وأتفه وأرخص من إني أقتل واحد منكم برصاصة. انتو تموتوا تحت الجزمة ويبقى شرف ليكم كمان. انتو أوسخ ناس في البلد، ومافيش فيكم راجل، كلكم رمم وحثالات ومالكمش لازمة في المجتمع، وموتكم أرحم. لو سمعت إن كلب فيكم رفع صوته تاني أو مسك "بشلة" وحب يعمل فيها راجل، أنا هاجي اقلعه ملط واصوره وانيـ..ـه واحطه رقبته تحت جزمتي لحد ما يموت. فاهمين يا رمم؟".
الكل هتف بصوت واحد: "فاهمين يا باشا..!".
وخرج الباشا من العنبر، ويعلق إيهاب النوباتشي بحسرة: "لازم نعترف إن الهرم ما خلفتش راجل!".